فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {لَن نُّؤْمِنَ} إنما تعّدى باللام دون الباء لأحد وجهين:
إمّا أن يكون التقدير: لن نؤمن لأجل قولك.
وإما أن يضمن معنى الإقرار، أي: لن نقر لك بما ادعيته.
وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام، لتقاربهما.
وفرق بعضهم بين قوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} وجعل الإيمان به بما جاء به، والإيمان له هو الاستسلام والانقياد.
قوله: {جَهْرَةً} فيها قولان:
أحدهما: أنها مصدر، وفيها حيئنذ قولان:
أحدهما: أن ناصبها محذوف، وهو من لفظها تقديره: جهرتم جهرة، نقله أبو البقاء.
والثاني: أنها مصدر من نوع الفعل، فتنتصب انتصاب القرفصاء من قولك، قعد القُرْفُصَاء فإنها نوع من الرؤية، وبه بدأ الزمخشري.
والثَّاني: أنها مصدر واقع الحال، وفيها حينئذ أربعة أقوال:
أحدها: أنه حَالٌ من فاعل نرى، أي: ذوي جَهْرَة، قاله الزمخشري.
والثاني: أنها حال من فاعل قُلْتم، أي: قلتم ذلك مُجَاهرين، قاله أبو البقاء.
وقال بعضهم: فيكون في الكلام تقديم وتأخير أي: قلتم جَهْرَةً: لن نؤمن لك، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير، بل أتي بمقول القول، ثم بالحال من فاعله، فهو نظير: ضربت هندًا قائمًا.
والثالث: أنها حال من اسم الله تعالى أي: نراه ظاهرًا غير مستور.
والرابع: أنها حال من فاعل {نؤمن}، نقله ابن عطية، ولا معنى له.
والصحيح من هذه الأقوال هو الثاني.
وقرأ ابن عَبَّاس: جَهَرَةً بفتح الهاء، وفيها قولان:
أحدهما: أنها لغة في {جَهْرَة}.
قال ابن عطية: وهي لغة مسموعة عند البصريين فيما كفيه حرف الحَلْق ساكن قد انفتح ما قبله، والكُوفيون يُجِيزُونَ فيه الفتح، وإن لم يسمعوه وقد تقدم تحريره.
والثاني: أنها جمع جَاهِر نحك خَادِم وخَدَمَ، والمعنى: حتى نرى الله كَاشِفِينَ هذا الأمر، وهي تؤيد كون {جَهرة} حالًا من فاعل نرى.
والجَهْر: ضد السِّرّ، وهو الكشف والظهور، ومنه: جَهَرَ بالقراءة أي: أظهرها.
قال الزمخشري: كأن الَّذِي يرى بالعين جاهر بالرُّؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها.
قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} قرأ عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم {الصَّعْقة} بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف، وهما لغتان.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملة حالية، والمعنى: وأنتم تنظرون موت بعضكم خلف بعض، أوك تنظرون إلى ما حَلّ بكم، أو: أنتم أعيتكم صَيْحَةٌ وتفكّر. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (56):

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان إحياؤهم من ذلك في الدار في غاية البعد وخرق العادة عبر عنه بأداة التراخي ومظهر العظمة فقال: {ثم بعثناكم} أي بما لنا من العظمة بالإحياء.
قال الحرالي: من البعث وهو الاستثارة من غيب وخفاء، أشده البعث من القبور، ودونه البعث من النوم؛ قال: وتجاوز الخطاب ما كان من سبب بعثهم، وكذلك كل موضع يقع فيه ثم، ففيه خطاب متجاوز مديد الأمد كثير رتب العدد مفهوم لمن استوفى مقاصد ما وقعت كلمة ثم، بينه من الكلامين المتعاطفين؛ ففي معنى التجاوز من الخطاب سؤال موسى عليه السلام ربه في بعثهم حتى لا يكون ذلك فتنة على سائرهم- انتهى.
ولما كان ربما ظن أن البعث من غشى ونحوه حقق معناه مبينًا أنه لم يستغرق زمن البعد بقوله: {من بعد موتكم} أي هذا بتلك الصاعقة، وقال دالًا على أن البعث إلى هذه الدار لا يقطع ما بنيت عليه من التكليف لأنها دار الأكدار فلابد من تصفية الأسرار فيها بالأعمال والأذكار {لعلكم تشكرون} أي لتصير حالكم حال من يصح ترجي شكره لهذه النعمة العظيمة، وكل ما جاء من لعل، المعلل بها أفعال الرب تبارك وتعالى ينبغي أن تؤول بنحو هذا، فإن لعل، تقتضي الشك لأنها للطمع والإشفاق فيطمع في كون مدخولها ويشفق من أن لا يكون، وتارة يكون الشك للمخاطب وتارة يكون للمتكلم، ولو قيل: لتشكروا، لم يكن هناك شك- قاله الرماني في سورة يوسف عليه السلام.
وقال الحرالي: وفي لعل، إبهام معلومه فيهم بأن منهم من يشكر ومنهم من لا يشكر- انتهى.
وسيأتي في سورة طه إن شاء الله تعالى عن نص سيبويه في كتابه ما يؤيد ما ذكرته.
وفي هذه الآية وما تقدمها من آية: {واتقوا يومًا لا تجزي نفس} تنبيه للعرب من غفلتهم في إنكار البعث وإرشاد إلى سؤال ممن يغرّهم من أهل الكتاب بأنهم أولى بالحق من المسلمين عن هذه القصة التي وقعت لأسلافهم من إحيائهم بعد موتهم، وكذا ما أتى في محاوراتهم من قصة البقرة ونحوها مما فيه ذكر الإحياء في هذه الدار أو في القيامة.
قال الحرالي: وفيه أي هذا الخطاب آية على البعث الآخر الذي وعد به جنس بني آدم كلهم فجأة صعق وسرعة بعث، فإن ما صح لأحدهم ولطائفة منهم أمكن عمومه في كافتهم- انتهى.
ولما ذكرت الصاعقة الناشئة غالبًا من الغمام كان أنسب الأشياء إيلاءها ذكر تظليل الغمام وناسب التحذير من نقمة الإحراق بالصاعقة والتذكير بنعمة الإيجاد من الموت الإتباع بذكر التنعيم في الإبقاء بالصيانة عن حر الظاهر بالشمس والباطن بالجوع. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} لأن البعث قد لا يكون إلا بعد الموت، كقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ في الكهف سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بعثناهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا} [الكهف: 11، 12].
فإن قلت: هل دخل موسى عليه السلام في هذا الكلام؟ قلت: لا، لوجهين.
الأول: أنه خطاب مشافهة فلا يجب أن يتناول موسى عليه السلام.
الثاني: أنه لو تناول موسى لوجب تخصيصه بقوله تعالى في حق موسى: {فَلَمَّا أَفَاقَ} مع أن لفظة الإفاقة لا تستعمل في الموت، وقال ابن قتيبة: إن موسى عليه السلام قد مات وهو خطأ لما بيناه.
أما قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فالمراد أنه تعالى إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم، أما أنه كلفهم فلقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى: {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شُكْرًا} [سبأ: 13]، فإن قيل: كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت؟ قلنا: الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء، وإنما يمنع من ذلك أنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصاعقة أن لا يكون قد اضطرهم، وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الإحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء.
ونقل عن الحسن البصري أنه تعالى قطع آجالهم بهذه الإماتة ثم أعادهم كما أحيا الذي أماته حين مر على قرية وهي خاوية على عروشها وأحيا الذين أماتهم بعدما خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وهذا ضعيف لأنه تعالى ما أماتهم بالصاعقة إلا وقد كتب وأخبر بذلك فصار ذلك الوقت أجلًا لموتهم الأول ثم الوقت الآخر أجلًا لحياتهم.
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فجوابنا عنه قد تقدم مرارًا فلا حاجة إلى الإعادة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم.
قال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم ثُمّ ردوا لاستيفاء آجالهم.
قال النحاس: وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا، والمعنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ما فعل بكم من البعث بعد الموت.
وقيل: ماتوا مَوْتَ همودٍ يعتبر به الغير، ثم أرسلوا.
وأصل البعث الإرسال.
وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محله؛ يقال: بعثت الناقة: أثرتها، أي حركتها؛ قال امرؤ القيس:
وفتيان صدْق قد بعثتُ بسُحْرة ** فقاموا جميعًا بين عاثٍ ونَشْوان

وقال عنترة:
وصحابةٍ شُمّ الأنوف بعثتهم ** ليلًا وقد مال الكرى بُطلاها

وقال بعضهم: {بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} علّمناكم من بعد جهلكم.
قلت: والأوّل أصح؛ لأن الأصل الحقيقةُ، وكان موت عقوبة؛ ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] على ما يأتي.

.فائدة: تكليف من أعيد بعد موته:

قال الماوَرْدِيّ: واختلف في بقاء تكليفَ من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما: بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل مِن تعبّد.
الثاني: سقوط تكليفهم معتبرًا بالاستدلال دون الاضطرار.
قلت: والأوّل أصح، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطًا عليهم والنار محيطة بهم؛ وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان، وبقاء التكليف ثابت عليهم؛ ومثلهم قوم يونس.
ومحال أن يكونوا غير مكلَّفين. والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.

.قال أبو حيان:

{ثم بعثناكم من بعد موتكم}: معطوف على قوله: {أخذتكم الصاعقة}، ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زمانًا تتصوّر فيه المهلة والتأخير، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت، أو الغشي على الخلاف الذي مرّ.
والبعث هنا: الإحياء، ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله جميعًا رجلًا بعد رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون.
وقيل: معنى البعث الإرسال، أي أرسلناكم.
روي أنه لما أحياهم الله سألوا أن يبعثهم أنبياء فبعثهم أنبياء.
وقيل: معنى البعث: الإفاقة من الغشية، ويتخرّج على قول من قال إنهم صعقوا ولم يموتوا.
وقيل: البعث هنا: القيام بسرعة من مصارعهم، ومنه قالوا: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا}؟ وقيل معنى البعث هنا، التعليم، أي ثم علمناكم من بعد جهلكم، والموت هنا ظاهرة مفارقة الروح الجسد، وهذا هو الحقيقة، وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم.
ومن قال: كان ذلك غشيًا وهمودًا كان الموت مجازًا، قال تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} والذي أتاه مقدّماته سميت موتًا على سبيل المجاز، قال الشاعر:
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ** قولًا يبرئكم إني أنا الموت

جعل نفسه الموت لما كان سببًا للموت، وكذلك إذا حمل الموت على الجهل كان مجازًا، وقد كنى عن العلم بالحياة، وعن الجهل بالموت.
قال تعالى: {أو من كان ميتًا فأحييناه} وقال الشافعي، رحمه الله:
إنما النفس كالزجاجة ** والعلم سراج وحكمة الله زيت

فإذا أبصرت فإنك حيّ ** وإذا أظلمت فإنك ميت

وقال ابن السيد:
أخو العلم حي خالد بعد موته ** وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ** يظنّ من الأحياء وهو عديم

ولا يدخل موسى على نبينا وعليه السلام في خطاب ثم {بعثناكم}، لأنه خطاب مشافهة للذين قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}، ولقوله: {فلما أفاق}، ولا يستعمل هذا في الموت.
وأخطأ ابن قتيبة في زعمه أن موسى قد مات {لعلكم تشكرون}: وفي متعلق الشكر أقوال ينبني أكثرها على المراد بالبعث والموت.
فمن زعم أنهما حقيقة قال: المعنى لعلكم تشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت، أو على هذه النعمة وسائر نعمه التي أسداها إليهم، ومن جعل ذلك مجازًا عن إرسالهم أنبياء، أو إثارتهم من الغشي، أو تعليمهم بعد الجهل، جعل متعلق الشكر أحد هذه المجازات.
وقد أبعد من جعل متعلق الشكر إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعه، بعد أن لم يكن شرائع.
وقيل: المعنى لعلكم تشكرون نعمة الله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت.
وقال في المنتخب: إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم.
أمّا أنه كلفهم، فلقوله: {لعلكم تشكرون}.
ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله: {اعملوا آل داود شكرًا} انتهى كلامه.
وقال الماوردي: اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته، ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف.
فقال قوم: سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبرًا بالاستدلال دون الاضطرار.
وقال قوم: يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} وذلك حين أبوا أو يقبلوا التوراة، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها، فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار، ولم يسقط عنهم التكليف، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم. انتهى كلامه. اهـ.